هانيبال… حين تنتصر العروبة على الجغرافيا
وجوه من التاريخ… حين تتكلّم الحضارة بلسان الإنسان… وتذكرة لعرب اليوم
بقلم: خليفة الشرقي

في التاريخ لحظاتٌ يتوقّف فيها الزمنُ ليصغي إلى عبقرية الإنسان…
ومن بين تلك اللحظات، ينهض اسم هانيبال بن حملقار،
ابن قرطاج وسليل صور، ووارث العروبة الأولى،
يوم كانت السفن الفينيقية تكتب خرائط العالم على صفحة البحر…
وُلِد هانيبال في مدينة قرطاج (تونس الحالية) عام 247 قبل الميلاد،
وعاش في زمنٍ كانت فيه قرطاج إحدى أعظم القوى في البحر المتوسّط،
تنازع روما على السيادة والتاريخ والمجد،
في ما عُرف بـ الحروب البونيقية الثانية (218–201 ق.م) —
وهي واحدة من أكثر الصراعات حسمًا في تاريخ الحضارات القديمة…
كان هانيبال عربيّ الجذر، إفريقيّ المولد،
امتزجت في دمه حرارة الصحراء وصفاء المتوسط،
فخرج من رحم التاريخ كأنه رسولُ الإرادة في وجه المستحيل…
حين أقسمَ أمام أبيه أن لا يُصالح ويصافح روما،
لم يكن يحلف لمدينةٍ فحسب،
بل للعِزّة ذاتها، وللكرامة التي تسكنُ في كلّ قلبٍ عربيٍّ حرّ…
ثم سار على دربٍ لا يسلكه إلا المجانين بالحلم:
عبر جبال الألب المكلّلة بالثلوج،
قاد جيشًا من الرجال والفيلة،
لينقضّ على الإمبراطورية التي ظنّت أن الشمس لا تغيب عن سلطانها وجبروتها…
لم يكن هانيبال يقاتل فقط،
بل كان يفكّر بفلسفة البقاء،
يعلم أنّ القوة ليست في العدد، بل في الفكرة التي تسكنُ الرأس…
وفي كلّ معركة، كان يزرع درسًا في الوعي قبل النصر.
وحين انتصر في معركة كاناي عام 216 ق.م،
دوّت خطّته في التاريخ كأنها قصيدة من عبقرية…
لكن عبقرية الشرق كثيرًا ما تُحاربها خياناتُ القرب،
فلم يجد الدعم من قرطاج كما وجد الرومان من روما،
فانكسر البطل لا بضعفٍ منه، بل بخذلان من أحبّهم…
وفي آخر أيامه، حين لاحقته جيوش روما إلى منفاه،
اختار السمّ على الذل،
وقال عبارته التي خلدها التاريخ:
“لن نترك للرومان شرف القبض على هانيبال.”
هكذا، غادر الحياة كما عاشها،
حرًّا، شامخًا، عربيًّا حتى الرمق الأخير…
دُفن هانيبال في مدينة ليبساوس قرب بحر مرمرة (في الأناضول الحالية)،
حيث ترقد ذكراه في أرضٍ غريبة،
لكنها احتضنته كما تحتضن الأرضُ أبطالها الكبار…
ولم يُعرف له ولدٌ أو وريث،
فقد انطفأت سلالته، وبقيت روحه وريثةً للإنسانية كلها…
لقد اختار أن يموت بيده لا بيد أعدائه،
كأنه يُعلّمنا أن الحرية ليست نقيض الموت،
بل معناها الأعمق ووحدة الاستمرار والاتحاد…
وأن من يختار موتَه، إنما يكتب حياته الأخيرة بيده،
في صفحةٍ من صفحات الخلود…
لم يكن هانيبال فقط قائداً عسكرياً،
بل رمزًا لإنسانٍ يتجاوز حدوده الجغرافية نحو إنسانيته الكبرى…
هو ابن العروبة التي أنجبت صور وقرطاج،
ابن البحر الذي حمل الحروف والتجارة والحضارة،
ابن الأرض التي تؤمن أنّ الشجاعة ليست سلاحًا،
بل إيمانًا بأنّ الروح حين تصدق، تهزم الجيوش…
وفي كل عصرٍ، حين تكثرُ الهزائم،
يبقى اسم هانيبال يطلّ من الذاكرة كأنه يقول:
“لا تنسوا أن العظمة تبدأ من فكرة،
وأنّ الأمة التي تؤمن بذاتها لا تُهزم،
وإن هُزمت يومًا، فلكي تنهض من جديد…”
وملحمة هانيبال في الشجاعة والانتصار،
تظلّ تذكرةً حيةً لعربِ اليومِ والزمنِ الآتي،
تقول لهم: كفى انهزاميةً وكفى هروبًا إلى الأمام…