الحسد والتحدي .. حين تتحوّل النار إلى نور
بقلم: خليفة الشرقي
الحسد داءٌ قبيح، مذموم شرعًا وعقلًا، يأكل قلب الحاسد، ويُضعف معنويات المحسود إن لم يتحصّن بإيمانه وصبره…
قال النبي ﷺ: “إياكم والحسد، فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب”..،
وليس ضرره قاصرًا على صاحبه، بل يمتد إلى من يقع عليه، فقد يُثقل روحه ويهوي بعزيمته، وكم من مبدعٍ توقفت مسيرته لأن نظرات الحاسدين طوّقت قلبه بالخوف والخذلان…
وهذا ما أكّده القرآن حين أمر بالاستعاذة من شرّ الحاسد في قوله تعالى:
{ومن شر حاسد إذا حسد} [الفلق:5].
أول شرارة حسد في التاريخ
ولعل أول جريمة سُجّلت في تاريخ البشرية كانت بدافع الغيرة والحسد، حين غار قابيل من أخيه هابيل، فطوّعت له نفسه قتل أخيه ظلمًا وعدوانًا…
قال تعالى: {فطوّعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين} [المائدة:30].
إنها صورة مبكرة تُبيّن كيف أن نار الحسد قد تحرق قلب صاحبها حتى تُخرجه من إنسانيته، وتدفعه إلى أبشع الجرائم…
وهكذا، فإن الحسد في بدايته الأولى كان شرارة دم، لا شرارة حياة…
لكن المفارقة العجيبة أن هذا السلوك المريض قد يكون – بغير قصد – دافعًا للمحسود ليتجاوز نفسه، ويحوّل أذى الحاسدين إلى سُلّمٍ يرتقي به…
فالموهوب حين يُحاصر بعيون الغيرة، يجد نفسه بين خيارين: إما أن ينكسر تحت وطأة الحسد، أو أن يجعله وقودًا يدفعه لمزيد من الإبداع والانتصار. وهنا تتجلّى الحكمة في قوله تعالى:
{أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله} [النساء:54]،
فالفضل هبة من الله، والحاسد لا يستطيع سلبه، بل يزيده تثبيتًا عند صاحبه…
والتاريخ شاهد على ذلك:
فالموسيقي الموصلي الذي غادر بغداد بسبب حسد أستاذه إبراهيم الموصلي، لم يخسر بخروجه، بل فتح لنفسه أبواب المجد في أرضٍ أخرى، حتى صار اسمه يتردد في الأجيال…
والفيلسوف سقراط، لم يسلم من حسد معاصريه، فاتهموه بما ليس فيه، وانتهى الأمر بموته مسمومًا، لكنه انتصر بخلود فكره في عقول الأجيال…
• والمتنبي، الشاعر الذي لم يسلم من سهام الحسد والغيرة، كان كل بيتٍ من شعره تحديًا صريحًا، حتى صار مثلاً في الفخر والاعتداد بالنفس…
بل إن العلماء المسلمين، مثل ابن الهيثم، حين حوربوا أو ضُيّق عليهم، لم يزدهم ذلك إلا صلابةً، فحوّلوا الغيرة والعداء إلى إنجازات لا تزال البشرية تنهل منها…
إن الحسد نارٌ تأكل قلب الحاسد، لكنها كثيرًا ما تتحوّل إلى مشعلٍ ينير درب الموهوب، إذا أحسن قراءة الابتلاء…
فالمبدع الواعي يعرف أن عداوة الحاسدين ليست نهاية، بل قد تكون بداية لصعودٍ جديد…
وهكذا، يصبح الحسد شاهدًا على عظمة الموهبة، ودليلًا على أن صاحبها يسير في طريق يستحق أن يُحارب عليه…
ويبقى الدرس الأعمق:
أن الحسد ريحٌ عاتية، إن واجهتها بضعف كسرتك،
وإن واجهتها بإصرار حملتك عاليًا،
تمامًا كما تفعل الرياح بالسفن… تغرق بها يدٌ مرتجفة،
وتُبحر بها يدٌ متمكنة…
فلا تجعل حسد الناس قيدًا في قدميك،
بل اجعله ريحًا في أشرعتك…
تسافر بك إلى حيث لا يصل الحاسدون…