شاعر وقصيدة

دمعة اليشماغ في مرثية فرحان

نعيم عبد مهلهل

 

 

 

بدون أن أعود الى أية مرجعية لتأريخ ارتداء اليشماغ غطاء للرأس ووقارا لمظهر الرجل ، وحامي صلعة راعي قطيع الجواميس من صباحات الشتاء الباردة . ويفترض المعلم ” حامد هويدر مسكون ” من أهل مدينة بهرز وأتى معلما الى مدرستنا القابعة في عمق الأهوار في قرية آل بو دمعة بأبعاد سياسي ، يفترض أنَ اليشماغ يمكن ان يكون راية لسارية علم المدرسة يوم تمزق الريح العلم بانتظار استلام واحد جديد من مديرية التربية لأن العلم يغطي الرؤوس واليشماغ يفعل ذلك ايضاً .
كمعلم رسم حيث اختصاصي ، ولكن لا يوجد تخصصه في جدول الدروس الأسبوعي حيث أعطوني الحياتية بدلا منه ، كنت أراقب اليشماغ بذلك التنقيط الساحر والهندسة التي تملك المفارقة من ان اليشماغ يصنع في مملكة السويد ويرتديه اهل الاهوار وهم لايعرفون عن السويد اي شيء ، وأقارنه بما كنت أراه في عمائم وقبعات أمراء سومر في المنحوتات والالواح وجدران المعابد والمسلات ، عندما عرفت أن كلمة ” آخ ماغ ” تعني بالسومرية غطاء الرأس ، وظل الغطاء ارثا للزي الذي تتميز به القامات الفارعة للرعاة وأهل القرى والمدينة ايضا ، وكما يقول أحدهم :بدونه تضيع الهيبة والملامح ويفقد المعدان قدرتهم على التخاطب مع الآخرين ، حتى تشعر إن الخجل يسكنهم حين يحدثونك وهم لا يرتدونه ، لهذا سمحنا للتلاميذ أن يرتدوه أيضا ، كما سمح لتلاميذ العهد التعليمي الأول للتلاميذ في المدن بأرتداء السدارة ، ولكن الفرق في ذلك العهد كان التلاميذ والمعلمين يرتدون السدارة معاً . وحين أعترض احد المشرفين على وجود اليشماغ على رؤوسهم يوم زار مدرستنا ودخل يحضر درسا لمادة الجغرافية في صفي ،قلت له :مسموح للتلميذ في المدينة أن يرتدي قبعة ، وهؤلاء اليشماغ هو قبعتهم .
قال المشرف :ولكن التلاميذ ينزعون قبعاتهم حين يدخلون الصف . ذلك لأن للصف حرمة كالجامع لأنه مكان لتربية الروح والبدن .
قلت : اذن لماذا لا تأمرون التلاميذ بنزع أحذيتهم كما نفعلها نحن مع الجامع .
صمت .ولم يجب .ثم قال للتلاميذ : هل تقبلون بأن تنزعوا الياشمغات عن رؤوسكم .
قال فرحان وهو تلميذ صاحب فطنة وقال : ولكن يا أستاذ أن نزعناها لا تركد الكلمات جيدا في رؤوسنا ويصير “باليافوخ ” دوخة بسبب البرد ؟
ضحك وقال :اذن أبقوها على رؤوسكم فنحن نريد للكلمات أن تركد ورؤسكم لا ” تدوخ “.
كوديا الملك السومري ارتدى اليشماغ ، وكذلك ارتداه الكهنة ، وتوارثه المعدان ،واعجب بنقشته الإسكندر المقدوني وتمنى أن يتوشح به قادة جيشه ، وشاهات الفرس وبكباشية الترك ، فيما الضباط الإنكليز كانوا يأخذونه هدايا الى حبيباتهم في لندن .
كل اهل قرية ” آل بو دمعة ” يرتدونه وبشكل جماعي ، واجمل ما شعرته ، ان أبناء القرية من التلاميذ الذين كبروا واصبحوا جنودا ، كانوا يأخذون يشماغتهم معهم في حقائبهم ،وحين سألت فرحان الذي اصبح عريفا في فوج مغاوير عن سبب اخذه لليشماغ معه ، قال : في الليل ينزع الجنود الخوذ ، ولأنني لم أتعود ليكون رأسي حاسرا ،ارتدي اليشماغ لأعيش إحساس أن قرية ” آل بو دمعة ” معي ، ومعها انفاس أبي ونظرات أمي وهي تودعني بعيون يملأها الدم والدمع ، وحتى سير الجواميس من الزريبة الى الماء اشعر إنها تمشي بين النقاط السوداء التي تطرز اليشماغ
سألته متعجبا وهو لم يكمل السادس الأبتدائي : من اين أتيت هذه الخواطر في ردك الجميل يا فرحان .
قال : الجندية تعلم الفم كيف يتحدث والقلب كيف يشعر .
في صباح مشمس ناعم النسائم ، جاء فرحان الى القرية بدون حقيبته وبدون بساطله وبدلته ، إنما مسجى وسط نعش . وما انتبته اليه بين موسيقى عويل نساء ونحيب الرجال من أهل القرية أن المأمور نظر الي حين كنت اكثر المعلمين نحيبا وتقدم صوبي وكانه يعرفني وقد حمل شيئا بكيس وسأل عن إسمي ، وحين تقدمت اجبته ، قال :هذا ما تركه فرحان لك .
وحين فتحته ، وجدته ذات اليشماغ الذي ارتداه وهو تلميذ ،وبقي على رأسه الى لحظة استشهاده في حرب المعدان تم اجبار المعدان على خوضها وأرادوها حربا لليشماغات وليس حربا للخوذ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار