“حينَ يُبصرُ السوط… ويعمى الوعي! دراسة سيكلوجية في نفوس شاذة
خليفة الشرقي
ثلاثةُ رجالٍ بلا بصرٍ ليس لديهم عوائل تستر جوعهم ولا دولة تعينهم على صعوبات الحياة …
واضطروا إن يسيروا خلف فتىً متسلط ، لا نور في عينيه إلا بريق الغضب، ولا دفء في قلبه سوى وهجِ الحقدِ والسيطرة…
يؤمنون به قائدًا وزعيمًا، ويكنّون له الولاء والامتنان، كأنه المخلّص الذي منحهم القدرة على اجتياز العتمة ومجابهة الحياة…
لكنّ الفتى لا يبادلهم عرفانًا، بل يُمطرهم بالسخرية والاستهزاء والشتائم، ويوبّخهم حتى في غياب الخطأ…
هو لا يترك فرصةً إلا وأكد فيها جبروته وسلطته، كأنما يقتات على خنوعهم ليشعر بأنه شيءٌ ذو شأن عظيم !
فالذين جاءوا من قاع الذلّ، حين تسنح لهم فرصة القيادة، لا يقودون بحكمة، بل ينتقمون من العالم وباستهتار،
يحتقرون الضعفاء لأنهم يُذكّرونهم بما كانوا عليه: مهانين، منبوذين، مكسوري الجناح…
وفي نهاية كل يومٍ، يعود العميان الثلاثة من رحلتهم الطويلة والمتعبة في التسوّل، تتقدّمهم خطواتُ الفتى الغليظة، فيقودهم إلى مأواهم الكئيب…
وهناك، يجلسون في صمتٍ طفلِيٍّ، يستمعون لرنين الدراهم وهي تتراقص بين أنامل قائدهم، كأنما يترقّبون رحمةً سماويّة تتنزل عليهم…
يعلمون أنه يسرقهم، يأخذ أكثر مما يستحق، لكنهم لا يعترضون…
هم لا يحتاجون لقائدٍ عادل، بل لمن يرى الطريق عنهم، حتى لو قادهم إلى الجوع والمهانة…
وحين يُلقي إليهم بفتات الطعام في صحونٍ خشنة، تمتدّ أياديهم المرتجفة تتحسّس ما فيها، ويلتهمونه دون تذوق وبشراهة…
ثم يرفعون رؤوسهم نحوه، كمن ينظر إلى إلهٍ كريم، مردّدين كلمات الشكر والعرفان لقائدهم “العطوف”!
ما أقسى العمى…
فهو لا يُطفئ العيون فحسب، بل يُخدّر الإرادة، ويصنع من التبعيّة نشوةً كاذبة بالأمان، ويحوّل الذلّ إلى طقسٍ من الطاعة اللذيذة والمريحة!
وهنا نقول ونؤكد ان العمى ليس نوعًا واحدًا…
ثمّة عمى في الجهل، وعمى في التعصّب، وعمى في عبادة الأوهام، وعمى في الغرور والأنانية والنرجسية،
وهناك عمى حين تُسْتَبدل البصيرة بالولاء الأعمى، والعقل بالتبعية المتسلطة …
وليس غريبًا أن تعجّ أوطانُنا البائسة بقادةٍ مرضى، قلوبهم مثقلة بالحقد، وأرواحهم فارغة إلا من جوعِ وعطش الانتقام…
وشعوبٌ مسحوقة، لا تملك غير صبرٍ مبلّلٍ بالذلّ والمهانة، تبحث في الحياة عن لقمة عيش، أو عن عُكّازٍ يقودها، ولو كان وهما ومذلا وقاتلًا…