ثقافة وفن

حياء الجمل… وسقوط الإنسان في العلن

بقلم خليفة الشرقي

 

 

 

 

ليس الحياء حكرًا على الإنسان، ولا الفضيلة نتاج العقل وحده،
بل هما أثرٌ من آثار الفطرة التي أودعها الله في مخلوقاته قبل أن تُنظَّمها الشرائع وتحرسها القيم…

فالجمل هذا الكائن الذي تعلّم الصبر من الصحراء حين تميل فطرته إلى رفيقته، لا يجعل من ذلك مشهدًا معروضًا، بل يعتزل، ويبحث عن مكانٍ آمن، كأن الغريزة عنده تعرف حدّها، وتفهم أن للقرب حرمة، وللخصوصية مقامًا لا يُنتهك…

وهنا يطلّ المعنى القرآني عميقًا:
﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾،
فالفطرة السليمة لا تفضح نفسها، ولا تطلب الشهادة على ما ينبغي أن يبقى مستورًا…

أما الإنسان وقد كرّمه الله بالعقل والتكليف فكان أولى أن يكون أشدّ صونًا، وأعمق وعيًا، إذ قال تعالى:
﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾.
غير أن هذا التكريم تعرّض في زمننا إلى تآكلٍ صامت، حين فُصلت الحرية عن المسؤولية، واختُزل الإنسان في صورة، أو مشهد، أو عدد إعجابات…

في المنصّات الاجتماعية، لم يعد خلع الحياء فعلًا خفيًا، بل صار سلوكًا معلنًا، تُزيَّن فيه الجرأة وتُشوَّه فيه البساطة، حتى التبس التعبير بالابتذال، والتحرّر بالانكشاف المخزي…

والأشدّ مرارة، أن هذا الانفلات لم يتوقّف عند الإنسان، بل امتدّ إلى الحيوان، فُجُرِّد من فطرته، وأُقحم في مشاهد مصطنعة لا تشبه طبيعته، فكان الاعتداء مزدوجًا: على الحيوان في براءته، وعلى الإنسان في إنسانيته…

وهنا يحضر التحذير الإلهي بوضوح:
﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.
فالقضية لم تعد خطأ فرديًا، بل ثقافة تُبَثّ، وذائقة تُعاد صياغتها، حتى يُستغرب الحياء، ويُتَّهَم الصامت بالتخلّف…

والدين في جوهره لا يُعادي الغريزة، بل يهذّبها، ويضعها في سياق يحفظ الكرامة، كما قال تعالى:
﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا﴾.
فالقرب مشروع، لكن دون تحويل الإنسان إلى مشهد، أو العلاقة إلى سلعة…

وفي الحديث الشريف:
«الحياء شعبة من الإيمان»،
لا بوصفه زينة أخلاقية، بل بوصفه خطّ الدفاع الأخير حين يشتدّ ضجيج الإغراء…

وخاتمة نقول:
ليست الصدمة فيما يُعرَض، بل فيما يُمحى من الداخل: الخجل، والرهبة، والإحساس بأن الله يرى وإن صمت الناس…
فحين يُنزَع الحياء علنًا، لا يسقط الفرد وحده، بل تسقط معه الذائقة، وتُصاب الفطرة بالتبلّد…

والمفارقة المؤلمة أن الحيوان يقف عند حدّه، بينما الإنسان حين يخلع حياءه بيده لا يقف…

تلك ليست حرية، بل تنازل طوعي عن الكرامة،
وهي أخطر أشكال السقوط:
أن يُصفّق الإنسان لانحداره،
ويُسمّيه تقدّمًا…

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار