في فضيلة النقاش العلمي وموقع النقاش الأدبي في حياة العلماء والأدباء
بقلم: خليفة الشرقي

ليست كلُّ كثرةِ كلامٍ لغوًا،
ولا كلُّ صمتٍ حكمة…
ففي حياة العلماء والأدباء، كثيرًا ما تولد الأفكار الكبرى من نقاشاتٍ بدت عابرة، ومن مجالس لم تُدوَّن في محاضر رسمية، ولم تُعنون في مؤتمرات…
النقاش في مجالس العلم ليس استعراضًا للمعرفة،
بل احتكاكُ عقولٍ، واختبارُ مسارات…
هو حديثٌ يُقال بلا ورق،
تُجرَّب فيه الأفكار قبل أن تُحبَس في قوالب المنهج.
وفيه قد يتعثّر العالِم لفظيًا،
فتنكشف اتجاهات تفكيره،
وتخرج زلّة التعبير لا بوصفها خطأ،
بل نافذةً على فكرةٍ لم تكتمل بعد…
كثيرٌ من الاكتشافات
لم تبدأ بفرضية مكتوبة،
بل بسؤالٍ قيل على استحياء،
أو اعتراضٍ طلابيٍّ غير مصقول،
أو جملةٍ أُطلقت ثم أُعيد التفكير فيها…
وهكذا يغدو النقاش العلمي مختبرًا أوليًا،
تُفحَص فيه الفكرة
قبل أن تُعلَن نظرية…
في عالمنا الشرقي،
تقوم العلاقة بين العالِم وطالب العلم،
وكذلك بين الأديب ومجايليه،
على كثرة اللقاء وتكرار الجلوس،
وعلى مجالسةٍ تتجاوز حدود الدرس
إلى الحديث الحر…
وهذا التكرار لا يُهدر الزمن،
بل يمنح الفكرة فرصة النضج؛
فالأفكار لا تولد مكتملة،
بل تنمو بالحوار،
وتتشكل بالاحتكاك الإنساني…
أما في النموذج الغربي،
فتميل كثيرٌ من المؤسسات الأكاديمية
إلى ترك الطالب في عزلةٍ منهجية منظَّمة،
ولا يلتقي أستاذه إلا بعد إنجاز عملٍ متقدّم
أو مسودةٍ شبه مكتملة.
هذا الأسلوب يصنع الدقة والاستقلال،
ويُنمي الاعتماد على الذات،
ويحمي البحث من التشتّت المبكر،
لكنه قد يؤخّر لحظة الابتكار…
غير أنّ هذا النموذج ليس واحدًا ولا مطلقًا؛
ففي بعض المدارس البحثية،
ولا سيما في العلوم الإنسانية والفلسفية،
يُشجَّع النقاش المبكر،
وتُعقَد حلقات العصف الذهني،
وتُطرَح الأسئلة قبل اكتمال الصياغة،
إدراكًا لأهمية الحوار
في ولادة الفكرة
لا في تنقيحها فقط…
ومع ذلك، يبقى الغالب في التجربة الغربية
أن يأتي الحوار بعد التشكيل الأولي للفكرة،
لا قبلها،
مما يؤخّر أحيانًا لحظة الشرارة الأولى،
ويجعل النقاش أداة تهذيب
أكثر من كونه أداة ولادة،
وهو ما قد يُقلّل من فرص
إنتاج أفكار بحثية مستحدثة
في مراحل مبكرة…
أما النقاش في مجالس الأدب
فله طبيعةٌ مغايرة.
هو أقلّ التزامًا بالبرهان،
وأكثر التصاقًا بالوجدان…
لا يبحث عن قانونٍ يُقاس،
بل عن معنى يُحَسّ.
ولا يصنع اكتشافًا علميًا مباشرًا،
لكنه يهذّب لغة التفكير،
ويُنمي الحسّ الإنساني لدى العالِم،
كما يفتح للأديب آفاقًا
تتجاوز الجغرافيا والزمان،
فيعبر القارات ويجتاز المحيطات
بتفكيرٍ غير مقيَّد،
باحثًا عن نصٍّ غير مطروق،
أو فكرةٍ أدبية
مغمّسة بفكرٍ إنسانيٍّ جديد…
غير أنّ قيمة النقاش الأدبي
تبقى في موقعها الصحيح
حين يكون معينًا لا بديلًا،
ومكمّلًا لا مزاحمًا…
فإذا تحوّل إلى دورانٍ حول المعنى ذاته،
أو إلى إرضاءٍ للذائقة دون سؤال،
فقد قدرته على الإضافة،
وصار ترفًا لغويًا
لا رافعة فكرية…
الشرق يصنع الأفكار في اللقاءات والمجالس؛
حيث تولد في دفء الحوار،
وتتشكل في رحم العلاقة الإنسانية…
والغرب يصقلها ويُخضعها للاختبار
في المختبر والمؤسسة،
حيث تُمحَّص وتُقاس
وتُعاد صياغتها بمنهج صارم…
ولا ينهض العلم،
ولا يزدهر الأدب،
بأحدهما دون الآخر…
فالعالِم الحقّ
ليس عقلًا مجرّدًا من الإحساس،
ولا الأديبُ وجدانًا منفصلًا عن المنهج،
بل هو من يجمع
صرامة البحث،
ورحابة اللغة،
ودقّة البرهان،
وإنسانية السؤال…
فليست المشكلة في كثرة النقاش،
بل في نوعه:
هل يفتح أفقًا جديدًا؟
أم يكتفي بتكرار المألوف؟
وفي المسافة بين
النقاش العلمي والنقاش الأدبي،
تتكوّن شخصية المفكّر الكامل:
عقلٌ يبحث،
وقلبٌ يفهم،
ولغةٌ تعرف
متى تصمت… ومتى تقول.
وخلاصة القول:
إننا نشجّع المدارس الشرقية
لا على الابتكار وحده،
بل على التمحيص والتجربة؛
فبهذا يكتمل الفكر،
ويبلغ قمته،
ويصل إلى نتاجٍ علميٍّ رصين
أو إبداعٍ أدبيٍّ حيّ…