سرقتُ منالي من أفواه الأسود
بقلم: خليفة الشرقي

الحصول على الأشياء التي نتمناها ليس سهلًا كما يظنّ الناس،
بل هو مسيرة طويلة، تتخلّلها العواصف، وتُروى فيها الأرض بعرق الطموح ودماء الإصرار…
فمن أراد أن يبلغ هدفًا ساميًا، عليه أن يتهيّأ لأن يُنتزع من راحته، ويُسحب من دفء المألوف، ويقف وجهًا لوجه أمام الموت ذاته…
ولذلك قالوا: أخذ اللقمة من فم الأسد…
الحياة لا تمنح شيئًا مجّانًا،
هي تختبر فينا الصبر، وتستدرجنا بأسئلتها الكبرى:
هل أنت مستعد لتدفع الثمن؟
هل ستتراجع حين ترى الهاوية؟
أم ستخوضها، لأن وراءها الحلم الذي لا يقبل التأجيل؟
لقد عرفتُ طريق الكفاح عن قرب ومن نعومة أظفاري…
مشيتُ بين الموت والحياة أكثر من مرّة،
وتذوّقتُ مرارة الخطر من أجل أن أبلغ هدفي الأعلى…
ضحّيتُ بالكثير: براحة الجسد، بطمأنينة العيش، بل بلحظاتٍ كان فيها الموت قريبًا، يراقب أنفاسي كما يراقب الصياد فريسته…
لكنّي لم أتوانَ، لأن الحلم الذي يسكن القلب لا يموت، حتى لو مات الجسد ألف مرّة…
ومن رحم الخوف وُلد الإصرار،
ومن تحت انقاض المسيرة خرجت الإرادة…
تعلّمتُ أنّ العظمة لا تُمنح، بل تُنتزع انتزاعًا من بين أنياب المصاعب،
وأنّ المجد لا يُورّث، بل يُكتب بالجهد والمعاناة…
الفلاسفة قالوا إنّ الإنسان لا يُقاس بما يملك، بل بما يتجاوز…
وأنا أقول: لا يُقاس المرء بما ناله، بل بما فقده في سبيل ما نال…
فمن لم يذق مرارة التضحية، لن يعرف طعم النعمة…
وهذا ما تعلّمه الأنبياء والمصلحون والعارفون بالله …
أنّ السموّ لا يتحقق إلا حين يُختبر الإيمان بالشدائد،
وحين يُكسر الجسد لتُطهَّر الروح…
ولعلّ في هذا معنى قوله تعالى:
“أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ، مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا…”
فكلّ طريقٍ نحو النور لا بدّ أن يمرّ أولًا في ظلمة…
وحين بلغتُ هدفي،
وتسلّقتُ قمّة جبلي،
لم أرَ في ذلك مجرّد إنجازٍ مهني، بل انتصارًا للإنسان في داخلي …
تلك الروح التي رفضت أن تُهزم، رغم الجراح، رغم الحوادث، رغم كلّ ما حاول أن يطفئها…
واليوم، حين أنظر إلى الوراء،
أدرك أنّ الوصول إلى القمّة لا يكون صدفة، بل بالثبات،
وأنّ المجد الحقيقي ليس في أن تصل،
بل في أن تظلّ واقفًا بعد كلّ فشل وسقوط…
الحياة، في جوهرها، ليست سباقًا نحو المجد، بل رحلة نحو الذات،
رحلة نحو الله، نحو معرفة الحكمة من الابتلاء،
ونحو اكتشاف أن كلّ خطوةٍ موجعةٍ كانت تمهيدًا لنورٍ أعظم وهدف أسمى…
فما نسمّيه الهدف الأسمى هو في الحقيقة ذلك النور الذي يهدينا الطريق،
نحو معنى الوجود، ونحو الإيمان بأنّنا ما خُلقنا عبثًا،
بل خُلقنا لنكافح، لنرتقي، لنسير من ظلمة الألم إلى ضوء المعنى والفرح…
فمن أراد أن يحقّق ذاته،
فليكن مستعدًّا لأن يسرق طموحاته من أفواه الأسود،
ومن أفواه الأقدار دون خوف ودون وجل…
ودون ندم،
مستعينًا بإيمانه، وواثقًا بأنّ الله لا يضيع سعي من صدق في المسير…