جسد الانسان تربة صالحة للزراعة ؟!
بقلم: خليفة الشرقي

في هذا النص:
اقدم رؤية فكرية متكاملة تجمع بين العلم والفلسفة والدين، لتصوّر الإنسان كحلقة حية في دورة الكون…
المقالة تتناول أصل الإنسان من الطين، ودور جسده في الطبيعة بعد الموت، وتستحضر الروحانية القرآنية التي تمنح لهذا التحوّل معنى أعمق…
مدخل: الإنسان… امتداد الأرض ووعيها
حين يتأمل الإنسان أصلَه، يدرك أن الحقيقة الكبرى التي تحكم وجوده ليست غيبًا مطلقًا، بل علمٌ ممتدّ في التراب، وفي الجسد، وفي الذرّة التي تتنفس فيه الحياة…
لقد لخّص القرآن المجيد هذا السر في قوله تعالى:
“منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارةً أخرى”
(طه: 55)
إنها آية تجمع بين العلم والدين والفلسفة، وتقدّم رؤية كاملة لدورة الخلق الإنساني: الخروج من الأرض، والعودة إليها، ثم البعث منها في صورةٍ أخرى…
الإنسان في ضوء العلم الحديث
العلم المعاصر يكشف أن جسد الإنسان يتكوّن من العناصر ذاتها التي تُشكّل التربة: الكربون، الكالسيوم، الحديد، الفوسفور، الكبريت، والماء.
وحين يموت الإنسان، يتحلّل جسده ويعود إلى الأرض، فتتحول عناصره إلى غذاء للنبات، الذي يتغذّى عليه الإنسان من جديد…
إنها دورة مدهشة للوجود، تُظهر أن الفناء في الطبيعة ليس زوالًا، بل تحوّلًا، فكل ذرةٍ فيه تمضي في رحلةٍ أبديةٍ من شكلٍ إلى آخر، ومن كيانٍ إلى آخر…
وهكذا تؤكد الأبحاث الحديثة أن الإنسان، بكل تعقيداته، ما هو إلا تربةٌ ناطقة استيقظ فيها الوعي، وأن التراب الذي يسير تحت أقدامنا يحمل ذاكرة الأجساد التي سبقته عبر العصور، من سومريين وآشوريين وبابليين ومن جاء بعدهم…
البعد الفلسفي: الطين الذي وعى ذاته
من منظورٍ فلسفي، يمثل الإنسان ذروة التحوّل في مسار المادة…
فالطين الذي كان جمادًا أصبح كائنًا حيًّا، ثم صار عقلًا مفكّرًا، ووعيًا يتأمل ذاته والوجود من حوله…
إنه الطين وقد استيقظ فيه الإدراك، فأصبح يسأل عن معنى الخلق، والغاية من الوجود، والمآل بعد الموت…
الفيلسوف يرى في الإنسان جسرًا بين الأرض والسماء، فهو يحمل في مادته التراب، وفي جوهره الروح…
تلك الازدواجية هي التي تمنحه القدرة على الإبداع والتأمل، كما تمنحه القلق الوجودي نفسه…
فكلما تعمّق في معرفة أصله الترابي، أدرك تواضعه، وكلما تذكّر نفخة الروح فيه، أدرك سموّه…
الرؤية الدينية: من الطين إلى الخلود
يقول الله تعالى في محكم كتابه:
“خلقنا الإنسان من صلصالٍ من حمإٍ مسنون”
(الحجر: 26)
فالطين في المفهوم القرآني ليس مجرد مادةٍ خاملة، بل مسرحٌ للقدرة الإلهية، ومنه انطلقت الحياة على الأرض.
لقد أراد الله أن يكون الإنسان من أديم الأرض ليبقى متّصلًا بأصله، متواضعًا في وجوده، مدركًا أن جسده فانٍ وروحه باقية…
فمن الأرض كانت البداية، وفيها تكون النهاية، ومنها يكون البعث، تحقيقًا للوعد الإلهي الذي لا يزول…
وهكذا تتكامل النظرة العلمية مع الرؤية الإيمانية في فهم الخلق:
فما يفسّره العلم بالتحوّل، يفسّره الدين بالبعث، وما تسميه الفلسفة “دورة المادة”، يسميه الوحي “سنّة الله في الخلق”..:
خاتمة: الإنسان… ابن الأرض وروح السماء
حين نقول “وما نحنُ إلا من أديم الأرض”، فنحن لا نصف مادّة الجسد فحسب، بل نقرّ بحقيقةٍ كونيةٍ أعمق:
أن الأرض ليست وطنًا نعيش عليه، بل أصلًا يسكن فينا…
وأن التراب ليس نهاية الجسد، بل مبدأ الخلود، إذ منه نُبعث تارةً أخرى…
الإنسان، في جوهره، ترابٌ نفخت فيه روحٌ من السماء،
وفي كل حفنة ترابٍ، تكمن قصة الخلق والبعث والخلود…
فسبحان من جعل من الطين وعيًا، ومن التراب حياة، ومن الإنسان آيةً على التقاء المادة بالمعنى، والأرض بالسماء…