العشق… بين قيد المجتمع وحرية القلب
بقلم: خليفة الشرقي

القلب واحد، نعم…
لكنه ليس حجراً جامداً، بل محطة عواطف وأحاسيس تتلاقى فيها مشاعر شتى:
يحب الناس جميعاً،
يعشق الأم والأب،
يحنّ إلى الطبيعة وما فيها من وجوه الجمال،
ويرقّ لكلّ ما ينبض بالحياة…
لكن حين نصل إلى قضية المرأة، يقف المجتمع متجهماً، متحفزاً،
يسأل:
لماذا يجب أن يعشق الرجل امرأةً واحدة فقط؟
لماذا يُحاكم القلب إن تفتّح على أكثر من زهرة؟
عنترة أحب عبلة، وقيس ذاب في ليلى، ونزار قباني كتب بلقيس بدموعه…
لكن، هل يعني هذا أن العشق لا يحق له أن يتعدد؟
أليس في تعدد الأحاسيس غنى للروح لا خيانة للجسد؟
نحن نعشق العصافير على اختلاف ألوانها وأصواتها،
ولا يلومنا أحد، بل يقال إننا نحب الجمال…
ونتذوق أنواع الأطعمة والشراب، فنُمدح على تنوّع ذوقنا واتساع حواسنا.
لكن حين نعشق نساءً مختلفات،
يقف الناس لنا بالمرصاد،
يضعوننا في دائرة الشك والخطيئة،
وكأن القلب لا يُسمح له أن يتنفس إلا برخصة المجتمع!
إنهم يباركون تعدد الحواس، ويُجرّمون تعدد القلوب…
يقبلون أن تكون ذواقاً في الفن، وفي الطبيعة، وفي المذاق،
لكنهم يرفضون أن تكون ذواقاً في الحب!
وكأن العشق عندهم يجب أن يكون ملكية خاصة، لا تجربة كونية…
الحقيقة أن العشق المتعدد ليس خيانة للقلب، بل حقّ له…
القلب، بما فيه من طاقة إحساس لا تنضب،
له أن يفيض كما تفيض الشمس بنورها على الجميع،
فلا يقال عن الشمس إنها خائنة لأنها أشرقت على أكثر من أرض..،
العاشق الحقيقي حين يحب أكثر من امرأة، لا ينقص من صدقه،
بل يرى في كل واحدةٍ وجهاً من وجوه الجمال الإلهي،
كأن الله أودع في كل أنثى صورةً مختلفة من الجمال المطلق…
وليس غريباً أن يعترف الإسلام، في جوهر تشريعه، بهذه الطاقة العاطفية المتعددة،
فقد أباح للرجل أن يتزوج أربع نساء، لا نزوةً ولا جسداً،
بل اعترافاً بقدرة القلب على احتضان أكثر من حب،
شريطة أن يكون في ذلك عدلٌ ووفاءٌ ومسؤولية…
فما شرّعه الله لا يمكن أن يخلو من حكمة،
وما سمح به الشرع إلا لأنه يعرف طبيعة الإنسان ومخزون عاطفته…
وهكذا يقرّ الإسلام بالحبّ والعشق المتعدد،
لكنّه يضع له حزام الوفاء والعدل،
كي تبقى القلوب صادقة، والعلاقات إنسانية راقية،
فيتحقق التوازن بين حرية الإحساس وضبط الضمير…
لكن المجتمع يخاف من الحرية،
يخشى أن يرى الإنسان حراً في عاطفته،
لأنه لا يحتمل فكرة أن الحب لا يُقنَّن…
إنه مجتمعٌ يعيش في ظلّ العيب لا ضوء الوعي،
يراقب الناس بعين الاتهام لا بعين الفهم،
فيقتل فينا صدق الإحساس باسم الفضيلة…
الحب، في معناه الأسمى، ليس عقدَ امتلاك،
بل فيضُ إنسانيةٍ يربط الأرواح بصدقٍ ودهشة…
ومن حقّ القلب أن يوزّع عطاياه ما دام لا يسرق،
وأن يحبّ ما دام لا يخدع،
وأن يعشق ما دام لا يزيّف…
فالعشق، كما أراه، عبادة الجمال في أوسع صوره،
وليس ذنباً يُستتاب منه،
بل طريقٌ نحو الحقيقة التي تخافها القلوب الضيقة…
العبادة بين حبّ الأم وعشق المرأة:
حبّ الأم هو النبع الأول للعاطفة،
عبادة لا تشبه عبادة الجسد، بل عبادة الروح للحياة…
هي التي منحتنا أول معنى للحنان، وأول عفوٍ بلا حساب،
هي وجه الله الأقرب إلى الإنسان…
فيها من الطهارة ما يجعل الحب لها إيماناً فطرياً لا يُناقش،
فحب الأم رحمة مطلقة بلا شرط ولا مقابل…
أما عشق المرأة والزوجة، فهو عبادة أخرى،
عبادة الجمال الإنساني حين يتجلّى في الجسد والروح والنظرة والكلمة…
هو اختيار بعد وعي، لا فطرة قبل الوعي،
فيه نار الشوق ودهشة اللقاء،
وفيه البحث عن الاكتمال الإنساني بعد أن نغادر حضن الأم إلى حضن العالم…
الأول يمنحنا سبباً للحياة،
والثاني يمنحنا سبباً للاستمرار فيها..،
الأم سماءٌ عالية لا تُطال،
والمرأة أرضٌ خضراء تنبض بالحياة،
والعاشق الحقّ هو من يعيش بين السماء والأرض،
ينظر إلى السماء بحبّ الأم،
ويمشي على الأرض بعشق الزوجة،
فيفهم أن الوجود لا يكتمل إلا حين تراقب السماءُ الأرضَ بحنوٍّ أبدي…
بين القلب والمجتمع
المجتمع لا يمتلك الشجاعة الكافية ليعترف أن العشق المتعدد يسكن القلوب،
يختبئ فيه الناس كما تختبئ النار تحت الرماد…
سوف ينزف كثيرًا من الانتقادات،
ليس دفاعًا عن الأخلاق، بل خوفًا من مواجهة الحقيقة…
فكلّ ناقدٍ في العلن،
يحمل في سرّه قلبًا يتمنى لو استطاع أن يعشق النساء جميعًا،
ثم يعود إلى بيته ليدّعي الفضيلة أمام نفسه…
إن الاعتراف بالعشق المتعدد لا يهدم الأخلاق،
بل يحرّر القلب من نفاق الشعور،
ويعيد للحب مكانته كقوةٍ إلهيةٍ لا تعرف القيد،
ما دام الوفاء سراجها، والصدقُ محرابها…