ثقافة وفن

خيوط الغياب

بقلم: هدى حجاجي أحمد

 

 

 

 

في كل صباح، كانت أمي تجلس قرب النافذة، ترتدي نظارتها الصغيرة وتفتح صندوق الخياطة الخشبي.
تخرج منه خيوطًا بألوانٍ كثيرة وإبرة لامعة، ثم تقول كعادتها:
“البيت الذي تُخاط أزراره في الصباح، لا يضيع نهاره أبدًا.”

كنا نضحك، وأحيانًا نسخر من طقوسها الصغيرة.
لكنها لم تكن تغضب، فقط تبتسم وهي تثبت الزر في مكانه وتقول:
“الزرّ مثل الكلمة الطيبة… إن سقط، انفرط كل شيء بعده.”

كانت الحياة بسيطة ومرتّبة مثل قطعة قماش جديدة.
حتى اليوم الذي غابت فيه إلى الأبد.

رحلت أمي فجأة، دون أن تُنهي القميص الذي كانت تصلحه لأخي.
ظلّ القميص ممدودًا على الطاولة، نصفه مخيط ونصفه الآخر ينتظر يدها.
ومنذ ذلك اليوم، صار البيت صامتًا كغرفةٍ انطفأ فيها الضوء.

في الصباحات التالية، حاولت أختي الصغيرة أن تخيط أزرارنا بنفسها.
جلست في مكان أمي، وأمسكت الإبرة بحذر.
لكنها وخزت إصبعها، فشهقت من الألم وقالت باكية:
“لماذا لم تكن أمي تتألم؟”
أجبتها وأنا أمسح دموعها:
“ربما لأنها كانت تخيط لنا بحب، لا بخيط.”

مرّت الأيام، وبدأت الأزرار تسقط واحدًا تلو الآخر.
لم نعد نهتم بإصلاحها.
ملابسنا أصبحت مثل قلوبنا، مهترئة لا تجد من يرقّعها.
والبيت الذي كان يعجّ بالحركة صار يختنق بالصمت.

وفي ليلةٍ ماطرة، جلستُ أفتح صندوقها القديم.
وجدت بداخله إبرة صدئة وخيطًا أزرق ما زال يحمل عقدة صغيرة في آخره.
مددت يدي أتحسس الخيط، فشعرت كأن شيئًا دافئًا يمرّ على كفي…
كأنها تقول لي من مكانٍ بعيد:
“رتّقي يا ابنتي ما استطعتِ، فالحياة إن تُركت دون خياطة، تمزّقت.”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار