ثقافة وفن

من جذع النخلة إلى شمس وجِلة: حدّ اليقين كقصيدة وجودية قراءة في نص الشاعرة الهام عيسى حد اليقين

الناقد العراقي حيدر الأديب

 

 

يرتبط اليقين في اللغة بالمعرفة المطلقة، بالإيمان، بالطمأنينة التي لا يتسرب إليها وله مراتب وجودية مختلفة
أما الحدّ فهو تخوم، حافة، نهاية. حين يجتمعان ينشأ التناقض: إذا بلغنا أقصى اليقين نصطدم بالعدم. وربما نصل
درجته النهائية في مشهدية حاسمة كما ورد في القران الكريم (لترونها عين اليقين) ولكن النص منذ عتبته يضعنا أمام مأزق معرفي: اليقين ليس ضمانًا للحياة، قد يتسرب في خطرات القدر ليكون هو الوجه الآخر للفناء. بهذا،
النص يعلن نفسه من البداية جزءًا من تقليد شعري-فلسفي يقترب من سيوران حين يقول: اليقين موت الفكر.

في المقطع الأول، / تأخر الصباح على غير المألوف/، يتوقف الزمن عن انتظامه فهو إما معطوب أو مؤجل. الصباح في الوعي البشري وعدً بالبدء. حين يتأخر، يتعطّل العالم.
هذه الصورة تذكّرنا ببداية الأرض الخراب لإليوت: أبريل أقسى الشهور. كلاهما يستعمل الزمن الطبيعي (الصبح/أبريل) ليقول شيئًا أبعد: أن الحياة لم تعد تتوالى كما نعرفها. النص يعلن هنا أن الإنسان يعيش في /زمن أعوج/، زمن الخوف والحرائق، حيث الأمنيات نفسها ـ تلك التي يفترض أن تمنح الأمل ـ تتحوّل إلى كائنات مرتجفة تعبر الحواجز. من هنا نرى ان الزمن ليس دراما حركة الشيء في الشعور ولا هو أطار يترصد فوضى المغزى في تشتت اللحظة فما نراه في النص إن الزمن مأساة متجددة

حين يقول النص: / حرائق تلتهم الزوايا… بقايا أطفال تملأ العيون/، نحن أمام معمار رمزي مزدوج: النار/الطفولة.
النار رمز للعنف الشامل، للدمار الذي لا يرحم. الطفل رمز البراءة والبداية. يولّد صدمة: البراءة لم تعد ممكنة إلا كبقايا، كأثر يلمع في العين ولا يتحقق في الواقع. هنا يلتقي النص مع أدونيس، خصوصًا في أغاني مهيار الدمشقي حيث الطفل يجري وسط دخان الحرب. لكن بينما عند أدونيس الطفل يتحوّل إلى طاقة احتجاج على الخراب، هنا الطفل مجرّد شظية من الذاكرة، شاهدة على عالم انتهى. النص إذن أكثر مأسوية وأقل ثورية. النص وثيقة براءة مهدورة

المقطع الأوسط، حيث /آوت إلى جذع نخلة/، يفتح النص على رمز قرآني عميق: مريم العذراء حين ولدت عيسى.
في السياق القرآني، الجذع علامة حياة ومعجزة، لكن في النص يتحوّل إلى ملاذ من الظلام.
هذا التحويل يذكّرنا بما فعله إليوت في الأرض الخراب حين استعمل رموزًا مسيحية وبوذية ليكشف عجزها لا قوتها. الرمز الديني هنا لم يعد يفتح باب الولادة، بل يختزل في فعل الهروب والابتهال: /اللهم آمين/.
إنها مفارقة الجذع الذي مثّل الولادة الأولى، هنا في النص ما هو إلا ملجأ هشًّ، الرمز القرآني ينقلب إلى مشهد عكسي للانكسار.

تقول الشاعرة /الشمس تفتح ذراعيها بخجل… تخفض جناح الذل./
هذه صورة قلبت التراتبية الكونية. الشمس عادة هي السيّد، المركز، القوة. في النص هي خجولة، وجلة، تخشى أن توقظ الغافين. هنا نرى انقلابًا رمزيًا: حتى أكثر الكائنات قدرة فقدت سلطانها.
إليوت في الأرض الخراب يتحدث عن /شمس قاحلة/. أدونيس يتحدث عن /شمس أخرى/ تولد من رماد. أما نص حدّ اليقين فيضع الشمس في موقع هشّ، متواطئة مع النوم الجماعي، صامتة أمام الموت. هذه صورة وجودية بامتياز: العالم نفسه خائف. يقرر النص أن الشمس كائن مهزوم

6. حدّ اليقين: سُكرة الموت
وتقول / فسكرة الموت جاثمة حدّ اليقين/.
الموت في النص حالة جاثمة، يقين قائم. هنا نصل إلى التوتر الأقصى: بين الصلاة (اللهم آمين) والموت (اليقين الجاثم). النص لا يقدّم مخرجًا، يتركنا معلّقين. هل الدعاء يفتح خلاصًا؟ أم أن الموت هو الجواب الأخير؟
هذه المفارقة تجعل النص قريبًا من نزعة سيوران: كل يقين ينتهي إلى موت. لكنها أيضًا تحمل ظلالًا قرآنية: وجاءت سكرة الموت بالحق. النص يشتبك إذن مع الموروث الديني والفلسفي معًا، ليقول: اليقين نفسه قد يكون موتًا.

يقوم النص على ثلاثة أعمدة رمزية وهي (الزمن المعطوب /تأخر الصباح) و(البراءة المحروقة / الطفولة والنار)
و(الضوء المهزوم /الشمس الخجولة)
ويُختتم بـ/يقين الموت/. هذه الأعمدة تجعل النص أقرب إلى قصيدة النثر الرمزية الحديثة: صور منفصلة لكنها مشدودة بخيط وجودي واحد. ليس هناك سرد متماسك، إنما شذرات كونية تنعكس في مرايا مشروخة.
الشذرات هي بؤر دلالية تشتغل على نسق التوتر الناتج من قلب الرمز والتناص المعكوس والاحالات الخاطفة فنرى
مع إليوت: كلا النصين يستعمل الطبيعة (الفصول، الشمس، الصبح) كبنية دلالية للخراب. الفرق أن إليوت يشيّد ملحمة أطول، بينما هنا نجد ومضة مكثّفة. فمكونات الطبيعة هنا ليست خلفيات إنما موجهات دلالية تعمل كبنية تحطم اليقين باليقين
مع أدونيس: كلاهما يستعمل ثنائية الحياة/الموت، الطفل/النار، الشمس/الظل. الفرق أن أدونيس يراهن على الانقلاب والثورة، بينما هذا النص يستسلم للعدم.
مع درويش: درويش يجعل الشمس والوطن رموزًا للحياة والحرية. هنا نجد العكس: الشمس خجولة، الوطن غائب. النص إذن لا يشتغل على الأرض-الوطن بل على الأرض-الموت.
مع سيوران: النص يقترب من نبرة سيورانية: لا خلاص إلا في الاعتراف بسُكرة الموت كيقين. لكنه يترك نافذة صغيرة عبر /اللهم آمين/، وكأن الكاتب يتأرجح بين سيوران والمتصوفة.
فلسفيا يُقدّم أنطولوجيا الانكسار فالزمن لا يتدفق (تأخر الصباح). والمكان يحترق (حرائق الزوايا). والإنسان يتفتت (بقايا أطفال). والرمز الديني ينكسر (جذع النخلة). والكوني يفقد سلطانه (الشمس). والنهاية يقين موتي (سُكرة الموت).

تقدم لنا الهام عيسى حدّ اليقين باشتغال رمزي متشظٍ، يقيم حوارًا مع النصوص الكبرى للحداثة العالمية (إليوت) والعربية (أدونيس، درويش)، ومع التراث القرآني (الجذع، سكرة الموت).
النص يتركنا على تخوم سؤال: هل اليقين هو الخلاص (الإيمان) أم الموت (العدمية)؟ لا يجيب، الشعر يترك القارئ في ارتجاف دائم. وهنا تكمن قوته: ليس في تقديم إجابة، إنما في تحويل النص نفسه

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار