الغربة… جسدٌ خارج الأسوار أم روحٌ بلا وطن؟
بقلم: خليفة الشرقي

الغربة ليست رحلة طائرة ولا ختم جواز على حدود، الغربة أعمق من ذلك…
قد يعالج الإنسان غربة جسده، فيعود أو يتأقلم أو يجد بين الناس بديلًا عن أهله، لكن كيف يعالج غربة روحه؟
إن حياة الروح — أو قبرها في الوطن، في هوائه العتيق، في أشجاره التي شهدت لعب الطفولة، في حجارة بيوته التي تسمع حكايات الجدّات، وفي أحضان محبيه الذين يصوغون معنى الانتماء… وحين يُقتلع الإنسان من هذه الأرض، يُنتزع من جذوره، ويزرع في تربة لا تصلح لزراعة الروح ولا تحمل طعم الأجداد ولا عبق التاريخ…
عندها تذبل الروح ولو عاش الجسد في قصور فارهة….
الغربة الحقيقية ليست غربة المسافات، بل غربة الهوية، أن تسير على أرضٍ لا تُشبهك، أن تتنفس هواءً لا يحمل رائحة دموع أمك ولا عرق أبيك…
فتبا لمن ينسى وطنه، كائنًا ما كان عذره…
حتى وإن امتلأ الوطن بالمظالم والمفاسد، يظل هو المرآة التي تعكس ماضينا، والمهد الذي يضم حاضرنا، والقبلة التي تنتظرنا بعد رحيلنا…
الوطن ليس جغرافيا فحسب، بل ذاكرة الروح، والروح إن خانت ذاكرتها ماتت…
اذن الغربةُ امتحانٌ للحياة الروحية: إمّا أن تصير شظايا تقطع الإنسان عن نفسه، وإمّا أن تُصقل شخصيته فتمنحه رؤيةً أعمق لذاته ووطنه…
لا ترمِ وطنك في المزابل الانفعالية إن كان قلبك لا يزال ينبض باسمه؛ ولا تستسلم لغربة الروح باعتبارها قدرًا لا يُردّ. اعمل، اكتب، اذكر، وسقِ الروح بطرائق تُبقي عليها حيّة …فليسَ الوطنُ مجرد مكان، بل قبلةٌ داخلية لا تُمحى إلا بموت الذاكرة…
وفي كلِّ غربةٍ تنبتُ أحزانٌ
لكن في صدرِ الغريبِ ينبعثُ وطنٌ…
فالغربة إذن ليست قيدًا أبديًا، بل فرصة لنعرف معنى الانتماء، ونكتشف أن الوطن لا يسكن الجغرافيا فقط، بل يسكن الروح… والروح إن خانت وطنها ماتت…